يجوز
للحاكم أن يقرر قتل خائن يتعاون عسكريا مع العدو إذا كان إحضار هذا الخائن
للمحكمة صعبًا ويسبب فتنةً أو قتلَ مزيد من الناس.. أي أنه يجوز إصدار حكم
غيابي بالإعدام، ولا يُشترط إخبار المحكوم عليه بهذا الحكم إن كان الوضع
الأمني لا يسمح بذلك.
قصة كعب بن الأشرف هي قصة خائن، فقد َأَخْرَجَ اِبْن عَائِذ أَنَّ كَعْبَ بْن الْأَشْرَف قَدِمَ عَلَى مُشْرِكِي قُرَيْش فَحَالَفَهُمْ عِنْد أَسْتَار الْكَعْبَة عَلَى قِتَال الْمُسْلِمِينَ.
وَمِنْ طَرِيق أَبِي الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة أَنَّهُ كَانَ يَهْجُو
النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ وَيُحَرِّض
قُرَيْشًا عَلَيْهِمْ. (فتح الباري)
فالرجل خان العهد وتآمر على حرب
المسلمين، وعاد من مكة للإعداد للفتك بالمسلمين بعد تأليب اليهود والمشركين
في المدينة على ذلك؛ فهل هناك ما هو أكثر من محالفة مشركي قريش عند أستار
الكعبة على القتال؟
لنقرأ هذه الرواية: بعث
رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر بشيرين إلى أهل المدينة فلما
بلغ ذلك كعب بن الأشرف فقال: ويلك أحق هذا؟ هؤلاء ملوك العرب وسادة الناس
-يعنى قتلى قريش- ثم خرج إلى مكة فجعل يبكي على قتلى قريش ويحرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم. (السنن الكبرى للبيهقي)
فالرجل لا يكتفي بالتحالف
العسكري، بل يبكي قتلى بدر.. أي أنه أكثر حماسا للقتال من كفار مكة أنفسهم،
فهو يستفزّهم ويحرّضهم على القتال.. وهذا من أشد أنواع خيانة العهد.
إذن، قتل كعب واجب باعتباره
خائنا، وحيث إنه زعيم فإن إحضاره للمحكمة غير ممكن، وسيستغل ذلك للتسريع في
تأليب الناس وإعدادهم العدّة للهجوم على المسلمين، فحقنًا للدماء لم يبقَ
مجال إلا قتله، وهذا شبيه بما تقوم به بعض الدول الآن من قتل المسلحين
الخارجين على الدولة الذين يصعب إحضارهم للمحكمة.
هل قُتل غدرا؟
الرواية التالية تبيّن أن الرسول صلى الله
لم يعرف بتفاصيل قتله: "كان كعب بن الأشرف، يقول الشعر ويخذل عن النبي صلى
الله عليه وسلم ويخرج في غطفان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من لي
بابن الأشرف؟ فقد آذى الله ورسوله؟ فقال محمد بن مسلمة الحارثي: أنا يا
رسول الله، أتحب أن أقتله؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ائت سعد بن معاذ فاستشره.
قال: فجئت سعد بن معاذ فذكرت ذلك له، فقال: امض على بركة الله، واذهب معك
بابن أخي الحارث بن أوس بن معاذ، وبعباد بن بشر الأشهلي، وبأبي عبس بن جبر
الحارثي، وبأبي نائل سلكان بن قيس الأشهلي، قال: فلقيتهم فذكرت ذلك لهم
فجاءوني كلهم إلا سلكان، فقال: يا ابن أخي أنت عندي مصدق، ولكن لا أحب أن
أفعل من ذلك شيئا حتى أشافه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك للنبي
صلى الله عليه وسلم، فقال: امض مع أصحابك، قال: فخرجنا إليه ليلا حتى جئناه
في حصن، فقال عباد بن بشر في ذلك شعرا شرح فيه قتلهم ومذهبهم، فقال:
صرخت به فلم يعرض لصوتي.... ووافى طالعا من فوق جدر
فعدت له فقال: من المنادي؟.... فقلت: أخوك عباد بن بشر
فأقبل نحونا يهوي سريعا...... وقال لنا: لقد جئتم لأمر
وفي أيماننا بيض حداد ......مجربة بها نكوي ونفري
فقلت لصاحبي لما بداني...... تبادره السيوف كذبح عير
وعانقه ابن مسلمة المرادي...... يصيح عليه كالليث الهزبر
وشد بسيفه صلتا عليه ......فقطره أبو عبس بن جبر
وكان الله سادسنا وليا ......بأنعم نعمة وأعز نصر
وجاء برأسه نفر كرام...... أتاهم هود من صدق وبر (المستدرك)
يُستفاد من هذه الرواية أن الرسول صلى
الله عليه وسلم لم يكن لديه علمٌ بكيفية قتل الرجل، فإن كان تمّ اغتياله
بشيء من الغدر فإن هذا لم يكن بإشارة منه صلى الله عليه وسلم، بل بخطأ
منهم؛ فالرواية تقول إنه سكت عندما طُرح عليه قتل كعب، وهذا يُضعف الرواية
القائلة إنه صلى الله عليه وسلم قد أذن لمحمد بن سلمة أن يقول فيه شيئا؟
على أنه يُستبعد جدًّا أن يقتله
الصحابةُ غدرا، ونحن لا نكتفي بتبرئة الرسول صلى الله عليه وسلم من الغدر،
لكن الرواية السابقة تشير إلى تبرئة الصحابة من ذلك، فالقضية أنهم نادوا
عليه، فشعر وشعرَتْ زوجته أن النداء يقطر منه الدم، لكن الرجل أراد أن
يَظهر شجاعًا لا يخشى أحدا، فكان في ذلك حتفه.
أما تفاصيل بعض الروايات التي
تشير إلى قتله بالغدر فلا يمكن أن نقدِّمها على هذه الرواية التي تنسجم مع
نصوص القرآن الكريم الكثيرة جدا التي تحضّ على الوفاء، وكذلك على نصوص
السنة الشريفة التي تلحّ على الوفاء إلحاحا.
المشكلة في بعض الروايات أنها لا
تذكر الحدث متكاملا، بل تذكر لحظة خاطفة منه، وهذه اللحظة لا تكون دقيقة
أحيانا. كما أنه مع الزمن تدخل تفاصيل إضافية على القصة.
المهم أن قتل كعب مرّ من غير
اعتراض من اليهود، فلم يقولوا لقد غدرتم بنا، أو لقد قتلتم بريئا.. بل
لعلهم شعروا أنه يستحق هذا القتل.
وهناك ما يشير إلى أنه تمّ تحذيره قبل الحكم بإعدامه غيابيا، كما في هذه الرواية: عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن كَعْبِ بن مَالِكٍ، أَنَّ كَعْبَ بن الأَشْرَفِ
الْيَهُودِيَّ، كَانَ شَاعِرًا وَكَانَ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ وَيُحَرِّضُ عَلَيْهِمْ،
فَقَالَ:"مَنْ لِكَعْبٍ؟"، فَلَمَّا أَبَى أَنْ يَنْزِعَ عَنْ أَذَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَذَى
الْمُسْلِمِينَ، أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، سَعْدَ بن مُعَاذٍ، وَمُحَمَّدَ بن مَسْلَمَةَ، وَأَبَا عِيسَى
بن الْحَارِثِ ابْنَ أَخِي سَعْدِ بن مُعَاذٍ فِي خَمْسَةٍ فَأَتَوْا
كَعْبًا، فَذَكَرَ مِثْلَهُ (المعجم الكبير للطبراني)
فالرواية هذه تفيد أنه تمّ تحذيره ولم يَرْعَوِ.. فكانت النتيجة أنْ حُكم بقتله.
وأختم بهذا الحديث من دلائل النبوة
للبيهقي يبين دور كعب الإجرامي، عن ابن إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن أبي
بكر بن حزم، وصالح بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، قالا: بعث رسول الله صلى
الله عليه وسلم حين فرغ من بدر بشيرين إلى أهل المدينة... يبشرونهم بفتح
الله عز وجل على نبيه... فلما بلغ ذلك كعب بن الأشرف قال: ويلكم أحق هذا؟
هؤلاء ملوك العرب وسادات الناس، ما أصاب ملك مثل هؤلاء قط. ثم خرج كعب
إلى مكة، فنزل على عاتكة بنت أسيد بن أبي العيص، وكانت عند المطلب بن أبي
وداعة، فجعل يبكي على قتلى قريش، ويحرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقال:
طَحَنَتْ رَحَى بَدْرٍ لِمَهْلِك أَهْلِهِ... وَلِمِثْلِ بَدْرٍ تَسْتَهِلّ وَتَدْمَعُ
قُتِلَتْ سَرَاةُ النّاسِ حَوْلَ حِيَاضِهِمْ... لَا تَبْعَدُوا إنّ الْمُلُوكَ تُصَرّعُ
كَمْ قَدْ أُصِيبَ بِهِ مِنْ أَبْيَضَ مَاجِدٍ... ذِي بَهْجَةٍ يَأْوِي إلَيْهِ الضّيّعُ
طَلْق الْيَدَيْنِ إذَا الْكَوَاكِبُ أَخْلَفَتْ... حَمّالُ أَثْقَالٍ يَسُودُ وَيَرْبَعُ
وَيَقُولُ أَقْوَامٌ أُسَرّ بِسَخطِهِمْ... إنّ ابْنَ الْأَشْرَفِ ظَلّ كَعْبًا يَجْزَعُ
صَدَقُوا فَلَيْتَ الْأَرْضُ سَاعَةَ قُتّلُوا... ظَلّتْ تَسُوخُ بِأَهْلِهَا وَتُصَدّعُ
صَارَ الّذِي أَثَرَ الْحَدِيثَ بِطَعْنِهِ... أَوْ عَاشَ أَعْمَى مُرْعَشًا لَا يَسْمَعُ
نُبّئْتُ أَنّ بَنِي الْمُغِيرَةِ كُلّهُمْ... خَشَعُوا لِقَتْلِ أَبِي الْحَكِيمِ وَجُدّعُوا
وَابْنَا رَبِيعَةَ عِنْدَهُ وَمُنَبّهٌ... مَا نَالَ مِثْلَ الْمُهْلِكِينَ وَتُبّعُ
نُبّئْتُ أَنّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامِهِمْ... فِي النّاسِ يَبْنِي الصّالِحَاتِ وَيَجْمَعُ
لِيَزُورَ يَثْرِبَ بِالْجُمُوعِ وَإِنّمَا... يَحْمَى عَلَى الْحَسَبِ الْكَرِيمُ الْأَرْوَعُ
(دلائل النبوة للبيهقي وسيرة ابن هشام وعيون الأثر)
ورواية أخرى تقول: "وكان كعب بن الأشرف
اليهودي، وهو أحد بني النضير وقيمهم، قد آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالهجاء، وركب إلى قريش فقدم عليهم فاستغواهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم،...... ثم خرج مقبلا قد أجمع رأي المشركين على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، معلنا بعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهجائه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من لنا من ابن الأشرف قد استعلن بعداوتنا وهجائنا، وخرج إلى قريش فأجمعهم على قتالنا، قد أخبرني الله عز وجل بذلك، ثم قدم على أخبث ما كان ينتظر قريشا أن يقدم فيقاتلنا معهم. (دلائل النبوة للبيهقي)