بسم الله الرحمن الرحيم
~ٌْ]‘
"حرّقوه .. وانصروا آلهتكم !! "
أراد أن يُسكت ثلاثين فما ثرثارا في حصة غاب عنهم فيها أستاذها، فجاسوا خلال الفصول يلعبون ويرشون الماء ويقذفون الطباشير على أبواب الفصول المغلقة.
كان شابا صغيرا حديث التعيين، وكانوا أطفالا لاهيين لا تقوى عليهم عصا. كدسهم بمشقة في الفصل، وضاع صوته بينهم وهم يقفزون بين الطاولات، فرحين بغياب أستاذهم، وبأن الحصة الآن "فراغ".
لم يعبأ بضجيجهم وبدأ حديثه هادئا يحكي لأقرب طالبين أمامه، رحلة نبي الله إبراهيم إلى مصر. وبمنطق الغيرة سكت له الأقرب فالأقرب حتى هدأ الفصل وتعلقت به العيون.
حين تنبه الطفل الصغير، كان قد وصل إلى مناظرة النمرود مع نبي الله إبراهيم؛ وهو يقول له : "ربي الذي يحيي ويميت"
قال : فجاء النمرود برجلين محكوم عليهما بالسجن ، وقال : نقتل واحدا فنميته ونعفو عن الآخر فنحييه .. أنا أحيي وأميت .
قال إبراهيم فإن الله يأت بالشمس من المشرق فائت بها من المغرب .. فبهت الذي كفر .
أتذكر الطفل الصغير المبهور بلفظ ( بُهتَ ) وهو يسمعه أول مرة، وبتعليق الأستاذ على سرعة بديهة نبي الله إبراهيم، وأنه لم يترك مجالا للجدل لدى النمرود. وأفكر الآن والحكاية تتجسد أمامي من خيال ذلك الطفل الصغير: كيف كانت نتيجة المناظرة لو أن سيدنا إبراهيم غضب وقال للنمرود "أنت لا تفهم معنى الإحياء والإماتة على حقيقتهما"، ثم انبرى يشرح الفرق بين الإحياء في الحقيقة والإحياء الذي فهمه النمرود . ويخرج من قصره يجمع الناس حوله ويقول لهم : النمرود لا يعرف شيئا ويغالط، والصواب هو أن الإحياء كذا وكذا !!!
هل كان يسمعه أحد !!
وهل كانت دعوته تتعدى جدران نفسه !!
تتسع الصورة بالتداعي، ومن خيال الطفل الصغير تبرز حكاية أخرى:
نبي الله إبراهيم وهو جالس مع قومه في الصحراء، معلق النظر بالسماء يهتف بكل روحه : "هذا ربي" حين ظهر له كوكب مضيء فيها. حتى إذا غاب الكوكب نادى بغضب رقيق: "لا أحب الآفلين !! " ..
و يظهر له القمر ثم يغيب وتدركه الشمس من بعده فيقول وقد قارب الملل : "هذا ربي هذا أكبر !! " ثم تخذله هي أيضا وتغيب ليعلن لقومه براءته مما يعبدون: "إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا".
حجة بغير جدال كبير ، يفهمها من يبحث عن الحقيقة، وينصرف عنها من سوى ذلك.
ومن هذه الحكاية إلى خيال الطفل يرسم صورة نبي الله إبراهيم وهو يكسر الأصنام ويعلق فأسه على كتف كبيرهم، حتى إذا سألوه "من فعل هذا بآلهتنا" "قال بل فعله كبيرهم هذا، فاسألوهم إن كانوا ينطقون" !!
ودليله معلق على كتفه.
"فرجعوا إلى أنفسهم .. فقالوا إنكم أنتم الظالمون"
ثم نكسوا على رؤوسهم : " لقد علمت ما هؤلاء ينطقون" ..
ويضيقون به وبمنطقه وبنفوسهم ذرعا فيهتفون بلا منطق "حرقوه وانصروا آلهتكم " .. دعوة تتداعي بين بيوتهم كلها، فيُخرج كل بيت ما فيه من حطب نصرة لآلهتهم الصامتة !!
هذا النبي نفسه، هو من جادل الله في إحياء الموتى ، اطمئنانا واستئناسا لئلا يكون في نفسه شك يفسد عليه عمله ..
"قال أولم تؤمن ، قال : بلى .. ولكن ليطمئن قلبي !! "
لم يبخل الله عليه بطلبه، ولم يلبه له سهلا ، بل جعله يبذل جهده في طلب الاطمئنان الذي ينشده :
"ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا"
وأي جهد أكبر من أن يوزع أجزاء الطير بيده على قمم الجبال ..
ثم أي فرحة حين يدعهن بعد ذلك فيأتينه سعيا ..
يحملن له اطمئنانه ويقينه الذي يبحث عنه .
بخيالات الطفل التي رسمتها الحكاية، في تلك الحصة البعيدة، آنس "واعتزلكم وما تدعون" من عبث وأدعو ربي .. أن يمنحنا الفهم ويصرف عنا الجدل .